الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الموسوعة الفقهية الكويتية ****
1 - الإحصان في اللّغة: معناه الأصليّ المنع، ومن معانيه: العفّة والتّزوّج والحرّيّة. ويختلف تعريفه في الاصطلاح بحسب نوعيه: الإحصان في الزّنا، والإحصان في القذف.
2 - أهمّ شروط إحصان الرّجم لعقوبة الزّنا: التّزوّج، وهو ممّا تعتريه الأحكام التّكليفيّة الخمسة على تفصيل موطنه مصطلح «نكاح». وأهمّ شروط إحصان القذف العفّة، وهي مطلوبة شرعاً، وورد فيها كثير من الآيات والأحاديث، كقوله تعالى: {وليستعفف الّذين لا يجدون نكاحاً}.
الإحصان نوعان 3 - أ - إحصان الرّجم: وهو مجموعة من الشّروط إذا توفّرت في الزّاني كان عقابه الرّجم فالإحصان هيئة يكوّنها اجتماع الشّروط الّتي هي أجزاؤه، وهي ثمانية، وكلّ جزء علّة. فكلّ واحد من تلك الأجزاء شرط وجوب الرّجم. 4 - ب - إحصان القذف: وهو عبارة عن اجتماع صفات في المقذوف تجعل قاذفه مستحقّاً للجلد. وتختلف هذه الصّفات بحسب كيفيّة القذف: بالاتّهام بالزّنا، أو بنفي النّسب.
5 - سيأتي أنّ إحصان الرّجم هو أن يكون حرّاً عاقلاً بالغاً مسلماً قد تزوّج امرأةً نكاحاً صحيحاً ودخل بها وهما على صفة الإحصان. والحكمة في اشتراط ذلك أنّ العقل والبلوغ شرط لأهليّة العقوبة، إذ لا خطاب دونهما، وما وراءهما يشترط لتكامل الجناية بواسطة تكامل النّعمة، إذ كفران النّعمة يتغلّظ عند تكثّرها. وهذه الأشياء من جلائل النّعم، وقد شرع الرّجم بالزّنا عند استجماعها فيناط به بخلاف الشّرف والعلم؛ لأنّ الشّرع ما ورد به باعتبارهما، ونصب الشّرع بالرّأي متعذّر؛ ولأنّ الحرّيّة ممكّنة من النّكاح الصّحيح، والنّكاح الصّحيح ممكّن من الوطء الحلال، والإصابة شبع بالحلال، والإسلام يمكّنه من نكاح المسلمة ويؤكّد اعتقاد الحرمة فيكون الكلّ مزجرةً عن الزّنا، والجناية بعد توفّر الزّواجر أغلظ. وأمّا اشتراط العفّة في إحصان القذف فلأنّ غير العفيف لا يلحقه العار بنسبته إلى الزّنا؛ لأنّ تحصيل الحاصل محال. ولو لحقه عار آخر فهو صدق، وحدّ القذف للفرية لا للصّدق.
6 - اتّفق الفقهاء على بعض شروط الإحصان في جريمة الزّنا، واختلفوا في البعض الآخر فمن الشّروط المتّفق عليها: أوّلاً وثانياً: البلوغ والعقل: وهما شرطان لأصل التّكليف، فيجب توفّرهما في المحصن وغير المحصن وقت ارتكاب الجريمة، فالوطء الّذي يحصن يشترط أن يكون من بالغ عاقل فإذا حصل الوطء من صبيّ ومجنون ثمّ بلغ أو عقل بعد الوطء لم يكن بالوطء السّابق محصناً. وإذا زنى عوقب بالجلد على أنّه غير محصن. وخالف في هذا بعض أصحاب الشّافعيّ وهو المرجوح في المذهب، فقالوا: إنّ الواطئ يصير محصناً بالوطء قبل البلوغ وأثناء الجنون. وحجّتهم أنّ ذلك الوطء وطء مباح، فيجب أن يثبت به الإحصان، لأنّ النّكاح إذا صحّ قبل البلوغ وأثناء الجنون فإنّ الوطء يصبح تبعاً له. وحجّة جمهور الفقهاء أنّ الرّجم عقوبة الثّيّب، ولو اعتبرت الثّيوبة حاصلةً بالوطء قبل البلوغ وأثناء الجنون لوجب رجم الصّغير والمجنون، وهذا ما لا يقول به أحد. وعند مالك، وهو الصّحيح عند الشّافعيّة ووجه للحنابلة، أنّه يكفي أن تتوفّر شروط الإحصان في أحد الزّوجين ليكون محصناً بغضّ النّظر عمّا إذا كان الزّوج الآخر تتوفّر فيه هذه الشّروط أم لا، إلاّ أنّ المالكيّة لا يعتبرون الزّوجة محصنةً إلاّ إذا كان واطئها بالغاً: فشرط تحصين الذّكر أن تتوفّر فيه شروط الإحصان مع إطاقة موطوءته له ولو كانت صغيرةً أو مجنونةً، وتتحصّن الأنثى عند المالكيّة بتوفّر شروط الإحصان فيها وببلوغ واطئها ولو كان مجنوناً. واشترط الحنفيّة - وهو مقابل الصّحيح عند الشّافعيّة ووجه للحنابلة - البلوغ والعقل في الطّرفين عند الوطء ليكون كلّ منهما محصناً فإن توافر في أحدهما فقط لم يعتبر أيّ منهما محصناً. وللحنابلة وجه آخر بالنّسبة للصّغيرة الّتي لم تبلغ تسعاً ولا يشتهى مثلها فإنّه لا يعتبر وطء البالغ العاقل لها إحصاناً. 7 - ثالثاً: الوطء في نكاح صحيح: يشترط لقيام الإحصان أن يوجد وطء في نكاح صحيح، وأن يكون الوطء في القبل، لقوله صلى الله عليه وسلم: «والثّيّب بالثّيّب الجلد والرّجم»، والثّيوبة تحصل بالوطء في القبل، ولا خلاف في أنّ عقد النّكاح الخالي من الوطء لا يحصل به إحصان ولو حصلت فيه خلوة صحيحة أو وطء فيما دون الفرج، أو وطء في الدّبر؛ لأنّ هذه أمور لا تعتبر بها المرأة ثيّباً، ولا تخرج عن الأبكار اللاّئي حدّهنّ الجلد. والوطء المعتبر هو الإيلاج في القبل على وجه يوجب الغسل سواء أنزل أو لم ينزل. وإن كان الوطء في غير نكاح كالزّنى ووطء الشّبهة فلا يصير الواطئ به محصناً باتّفاق. ويشترط في النّكاح أن يكون صحيحاً، فإن كان فاسداً فإنّ الوطء فيه لا يحصن، وهذا رأي جمهور الفقهاء؛ لأنّه وطء في غير ملك فلا يحصل به إحصان كوطء الشّبهة. ويشترط إذا كان الوطء في نكاح صحيح ألاّ يكون وطئاً محرّماً كالوطء في الحيض أو الإحرام، فإنّ الوطء الّذي يحرّمه الشّارع لا يحصن ولو كان في النّكاح صحيح. وزاد المالكيّة اشتراط أن يكون النّكاح الصّحيح لازماً. ويترتّب على ذلك أنّه لو كان في أحد الزّوجين عيب أو غرر يثبت به الخيار فلا يتحقّق به الإحصان. وقال أبو ثور: يحصل الإحصان بالوطء في نكاح فاسد، وحكي ذلك عن اللّيث والأوزاعيّ؛ لأنّ الصّحيح والفاسد سواء في أكثر الأحكام مثل وجوب المهر وتحريم الرّبيبة وأمّ المرأة ولحوق الولد، فكذلك في الإحصان. 8 - ويتفرّع على اشتراط الوطء في القبل ما يلي: أ - وطء الخصيّ إذا كان لا يجامع، وكذلك المجبوب والعنّين لا يحصن الموطوءة، على أنّه إن جاءت بولد وثبت نسبه من الزّوج فالخصيّ والعنّين يحصنان الزّوجة؛ لأنّ الحكم بثبوت النّسب حكم بالدّخول. والمجبوب عند أكثر العلماء لا تصير الزّوجة به محصنةً لعدم الآلة. ولا يتصوّر الجماع بدونها وثبوت حكم الإحصان يتعلّق بالجماع، وخالف في ذلك زفر؛ لأنّ الحكم بثبوت النّسب من المجبوب يجعل الزّوجة محصنةً. ب - وطء الرّتقاء لا يحصنها لانعدام الجماع مع الرّتق، كما أنّه لا يصبح محصناً بذلك إلاّ إذا وطئ غيرها بالشّروط السّابقة. رابعاً: الحرّيّة 9 - الرّقيق ليس بمحصن ولو مكاتباً أو مبعّضاً أو مستولدةً لأنّه على النّصف من الحرّ، والرّجم لا نصف له وإيجابه كلّه يخالف النّصّ مع مخالفة الإجماع. قال اللّه تعالى: {فإن أتين بفاحشة فعليهنّ نصف ما على المحصنات من العذاب}. وخالف في ذلك أبو ثور وقال: العبد والأمة هما محصنان يرجمان إذا زنيا. وحكي عن الأوزاعيّ في العبد تحته حرّة هو محصن، وإن كان تحته أمة لم يرجم. ثمّ ذهب الفقهاء إلى أنّ العبد إذا عتق مع امرأته الأمة فإن جامعها بعد العتق يكونا محصنين، علما بالعتق أو لم يعلما. وكذا لو نكح الحرّ أمةً أو الحرّة عبد فلا إحصان إلاّ أن يطأها بعد العتق. خامساً: الإسلام 10 - أمّا شرط الإسلام فالشّافعيّ وأحمد وأبو يوسف من أصحاب أبي حنيفة لا يشترطون الإسلام في إحصان الرّجم، فإن تزوّج المسلم ذمّيّةً فوطئها صارا محصنين، لما روى مالك عن نافع عن ابن عمر أنّه قال: «جاء اليهود إلى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فذكروا له أنّ رجلاً منهم وامرأةً زنيا فأمر بهما رسول اللّه صلى الله عليه وسلم». متّفق عليه؛ ولأنّ الجناية بالزّنى استوت من المسلم والذّمّيّ، فيجب أن يستويا في الحدّ. وعلى هذا يكون الذّمّيّان محصنين. وحدّهما الرّجم إذا زنيا فبالأولى إذا كانت الذّمّيّة زوجةً لمسلم. وجعل مالك وأبو حنيفة الإسلام شرطاً من شروط الإحصان، فلا يكون الكافر محصناً، ولا تحصن الذّمّيّة مسلماً عند أبي حنيفة؛ لأنّ «كعب بن مالك لمّا أراد الزّواج من يهوديّة نهاه النّبيّ صلى الله عليه وسلم وقال: إنّها لا تحصنك»، ولأنّه إحصان من شرطه الحرّيّة فكان الإسلام شرطاً فيه كإحصان القذف. وعلى هذا فالمسلم المتزوّج من كتابيّة إذا زنى يرجم عند أكثر الفقهاء ولا يرجم عند أبي حنيفة لأنّه لا يعتبر محصناً؛ لأنّ الكتابيّة عنده لا تحصن المسلم. ونظراً لأنّ مالكاً - وهو الصّحيح عند الشّافعيّة ووجه عند الحنابلة - لا يعتبر توفّر شروط الإحصان في الزّوجين فقد قال برأي الجمهور: أنّ الذّمّيّة تحصن المسلم، ويستحقّ الرّجم إذا زنى. أمّا وجود الكمال في الطّرفين بمعنى وجود شروط الإحصان في الواطئ والموطوءة حال الوطء الّذي يترتّب عليه الإحصان فيرى أبو حنيفة وأحمد - وهو رأي عند الشّافعيّ - أنّ هذا من شروط الإحصان، فيطأ مثلاً الرّجل العاقل امرأةً عاقلةً. وإذا لم تتوفّر هذه الشّروط في أحدهما فهما غير محصنين. فالزّاني المتزوّج من مجنونة أو صغيرة غير محصن ولو كان هو نفسه عاقلاً بالغاً، ولكنّ مالكاً لا يشترط هذا ويكفي عنده أن تتوفّر شروط الإحصان في أحد الزّوجين ليكون محصناً بغضّ النّظر عمّا إذا كان الآخر تتوفّر فيه هذه الشّروط أم لا.
11 - ممّا سبق يتبيّن ما اتّفق عليه الفقهاء من شروط الإحصان وما اختلفوا فيه، وإذا كان بعض الفقهاء يوجب توفّر هذه الشّروط في كلّ من الزّوجين لاعتبار أحدهما محصناً فإنّ الفقهاء جميعاً لا يشترطون إحصان كلّ من الزّانيين، فإذا كان أحدهما محصناً والثّاني غير محصن رجم المحصن وجلد غير المحصن، لما روي «أنّ رجلاً من الأعراب أتى النّبيّ صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول اللّه أنشدك اللّه إلاّ قضيت لي بكتاب اللّه، وقال الخصم الآخر - وهو أفقه منه -: نعم فاقض بيننا بكتاب اللّه وأذن لي، فقال صلى الله عليه وسلم قل، فقال: إنّ ابني كان عسيفاً على هذا، فزنى بامرأته، وإنّي أخبرت أنّ على ابني الرّجم، فافتديت منه بمائة شاة ووليدة فسألت أهل العلم فأخبروني أنّ على ابني جلد مائة وتغريب عام، وأنّ على امرأة هذا الرّجم، فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: والّذي نفسي بيده لأقضينّ بينكما بكتاب اللّه. الوليدة والغنم ردّ عليك، وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام. واغد يا أنيس - لرجل من أسلم - إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها. قال: فغدا عليها فاعترفت، فأمر بها رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فرجمت». وممّا تجدر الإشارة إليه أنّه لا يجب بقاء النّكاح لبقاء الإحصان، فلو نكح في عمره مرّةً ثمّ طلّق وبقي مجرّداً، وزنى رجم.
12 - يثبت الإحصان في الرّجم بالإقرار الصّحيح وهو ما صدر من عاقل مختار فيجب أن يكون المقرّ بالإحصان عاقلاً مختاراً؛ لأنّ المكره والمجنون لا حكم لكلامهما كما يثبت بشهادة الشّهود، ويرى مالك والشّافعيّ وأحمد وزفر أنّه يكفي في إثبات الإحصان شهادة رجلين؛ لأنّه حالة في الشّخص لا علاقة لها بواقعة الزّنى، فلا يشترط أن يشهد بالإحصان أربعة رجال كما هو الحال في الزّنى. ولكنّ أبا يوسف ومحمّداً يريان أنّ الإحصان يثبت بشهادة رجلين أو رجل وامرأتين. وكيفيّة الشّهادة أن يقول الشّهود: تزوّج امرأةً وجامعها أو باضعها، ولو قال: دخل بها يكفي عند أبي حنيفة وأبي يوسف؛ لأنّه متى اقترن الدّخول بحرف الباء يراد به الجماع، وقال محمّد: لا يكفي؛ لأنّ الدّخول يطلق على الخلوة بها.
13 - اتّفق الفقهاء على وجوب رجم المحصن إذا زنى حتّى يموت، رجلاً كان أو امرأةً، مع خلاف في الجمع بين الجلد والرّجم. وعقوبة الرّجم ثابتة بالسّنّة والإجماع. فالرّجم ثابت عن الرّسول صلى الله عليه وسلم قولاً وفعلاً على تفصيل محلّه مصطلح «زنى».
14 - لصيانة أعراض ذوي العفّة من الرّجال والنّساء حرّم اللّه قذف المحصنين والمحصنات ورتّب على ذلك عقوبةً دنيويّةً وأخرويّةً. شروط إحصان القذف: 15 - المحصن الّذي يحدّ قاذفه هو من تتوفّر فيه الشّروط الآتية باتّفاق الفقهاء، إذا كان القذف بالزّنا، أمّا في حالة نفي النّسب فيشترط أبو حنيفة فضلاً عن ذلك أن تكون الأمّ مسلمةً وأن تكون حرّةً. أ - الحرّيّة: فلا حدّ على قاذف العبد والأمة. ب - الإسلام: فلا حدّ على قاذف مرتدّ أو كافر أصليّ؛ لأنّه غير محصن. وإنّما اعتبر الكافر محصناً عند أكثر أهل العلم في حدّ الزّنا دون حدّ القذف لأنّ حدّه في الزّنا بالرّجم إهانة له، وحدّ قاذف الكافر إكرام له، والكافر ليس من أهل الإكرام. ج، د - العقل والبلوغ: خرج الصّبيّ والمجنون لأنّه لا يتصوّر منهما الزّنا، أو هو فعل محرّم، والحرمة بالتّكليف، وأبو حنيفة والشّافعيّ يشترطان البلوغ مطلقاً، سواء أكان المقذوف ذكراً أم أنثى، ولا يشترط مالك البلوغ في الأنثى، ولكنّه يشترطه في الغلام، ويعتبر الصّبيّة محصنةً إذا كانت تطيق الوطء، أو كان مثلها يوطأ ولو لم تبلغ، لأنّ مثل هذه الصّبيّة يلحقها العار. واختلفت الرّوايات عن أحمد في اشتراط البلوغ، ففي رواية أنّ البلوغ شرط يجب توفّره في المقذوف؛ لأنّه أحد شرطي التّكليف، فأشبه العقل؛ ولأنّ زنى الصّبيّ لا يوجب حدّاً، فلا يجب الحدّ بالقذف به، كزنى المجنون. وفي رواية ثانية أنّ البلوغ ليس شرطاً، لأنّه حرّ عاقل عفيف يتعيّر بهذا القول الممكن صدقه، فأشبه الكبير. وعلى هذه الرّواية لا بدّ أن يكون كبيراً ممّن يتأتّى منه الجماع. ويرجع فيه إلى اختلاف البلاد. هـ - العفّة عن الزّنى: معنى العفّة عن الزّنى ألاّ يكون المقذوف وطئ في عمره وطئاً حراماً في غير ملك ولا نكاح أصلاً، ولا في نكاح فاسد فساداً مجمعاً عليه، فإن كان قد فعل شيئاً من ذلك سقطت عفّته، سواء كان الوطء زنًى موجباً للحدّ أم لا، فالعفّة الفعليّة يشترطها الأئمّة الثّلاثة، وأحمد يكتفي بالعفّة الظّاهرة عن الزّنى، فمن لم يثبت عليه الزّنا ببيّنة أو إقرار، ومن لم يحدّ للزّنا فهو عفيف. ثمّ إن كان القذف بنفي النّسب حدّ اتّفاقاً، وإن كان بالزّنى فيمن لا يتأتّى منه الوطء فلا يحدّ قاذفه عند أبي حنيفة والشّافعيّ ومالك. وقالوا: لا حدّ على قاذف المجبوب، وقال ابن المنذر: وكذلك الرّتقاء، وقال الحسن: لا حدّ على قاذف الخصيّ، لأنّ العار منتف عن هؤلاء للعلم بكذب القاذف، والحدّ إنّما يجب لنفي العار. وعند أحمد يجب الحدّ على قاذف الخصيّ والمجبوب والمريض والرّتقاء والقرناء لعموم قوله تعالى: {والّذين يرمون المحصنات ثمّ لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدةً}. والرّتقاء داخلة في عموم هذا، ولأنّه قاذف لمحصن فيلزمه الحدّ كقاذف القادر على الوطء؛ ولأنّ إمكان الوطء أمر خفيّ لا يعلمه كثير من النّاس فلا ينتفي العار عند من لم يعلمه بدون الحدّ، فيجب كقذف المريض.
16 - كلّ مسلم محمول على العفّة ما لم يقرّ بالزّنى، أو يثبت عليه بأربعة عدول، فإذا قذف إنسان بالزّنى فالمطالب بإثبات الزّنى وعدم العفّة هو القاذف، لقوله تعالى: {والّذين يرمون المحصنات ثمّ لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدةً}. وأمّا المقذوف فلا يطالب بإثبات العفّة؛ لأنّ النّاس محمولون عليها حتّى يثبت القاذف خلافه، فإذا أقرّ القاذف بإحصان المقذوف ثبت الإحصان. وإن أنكر القاذف الإحصان فعليه أن يقيم البرهان على سقوط عفّة المقذوف، فإن عجز عن الإثبات فليس له أن يحلّف المقذوف.
17 - يسقط الإحصان بفقد شرط من شروطه، فمن أصابه جنون أو عنّة أو رقّ بطل إحصانه. والمرتدّ يبطل إحصانه عند من يجعل الإسلام شرطاً في الإحصان. ولا حدّ على القاذف إذا تخلّف شرط من شروط الإحصان في المقذوف، وإنّما عليه التّعزير إذا عجز عن إثبات صحّة ما قذف به. ويرى الأئمّة الثّلاثة توفّر شروط الإحصان إلى حالة إقامة الحدّ، خلافاً لأحمد فإنّه يرى أنّ الإحصان لا يشترط إلاّ وقت القذف ولا يشترط بعده.
18 - إحصان المقذوف يوجب عقوبتين: جلد القاذف، وهي عقوبة أصليّة، وعدم قبول شهادته، وهي عقوبة تبعيّة على تفصيل موطنه مصطلح: «قذف».
19 - لو ارتدّ المحصن لا يبطل إحصانه عند من لا يشترط الإسلام في الإحصان كالشّافعيّ وأحمد، ويوافقهما أبو يوسف من أصحاب أبي حنيفة. وحجّتهم أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم رجم يهوديّين زنيا، ولو كان الإسلام شرطاً في الإحصان ما رجمهما. ثمّ هذا داخل في عموم قوله صلى الله عليه وسلم: «أو زنًى بعد إحصان "؛ ولأنّه زنًى بعد إحصان فكان حدّه الرّجم كالّذي لم يرتدّ. ونظراً لأنّ أبا حنيفة يجعل الإسلام شرطاً في الإحصان فالمحصن إذا ارتدّ يبطل إحصانه. وحجّته حديث الرّسول صلى الله عليه وسلم: «من أشرك باللّه فليس بمحصن». فكذلك المرتدّ لا يبقى محصناً لفقد شرط من شروط الإحصان وهو الإسلام. وبهذا أخذ مالك، وذهب إلى أنّه إذا ثبت للرّجل والمرأة حكم الإحصان سواء في إحصان الرّجم أو القذف، ثمّ ارتدّ عن الإسلام فإنّه يسقط عنه حكم الإحصان، فإن رجع إلى الإسلام لم يكن محصناً إلاّ بإحصان مستأنف. واستدلّ مالك على ذلك بقول اللّه تعالى: {لئن أشركت ليحبطنّ عملك} وهذا قد أشرك، فوجب أن يحبط كلّ عمل كان عمله.
1 - الإحلال في اللّغة مصدر أحلّ ضدّ حرّم، يقال: أحللت له الشّيء، أي جعلته له حلالاً. ويأتي بمعنًى آخر وهو أحلّ لغة في حلّ، أي دخل في أشهر الحلّ، أو جاوز الحرم، أو حلّ له ما حرم عليه من محظورات الحجّ. ولم يستعمل الفقهاء، لفظ «إحلال " إلاّ للتّعبير عن معاني غيره من الألفاظ المشابهة مثل " استحلال، وتحليل، وتحلّل، وحلول " فهي الّتي أكثر الفقهاء استعمالها، لكنّهم استعملوا " الإحلال " بمعنى الإبراء من الدّين أو المظلمة. وأمّا استعمال البعض الإحلال بالمعنى اللّغويّ فيراد به الإطلاقات التّالية: أ - ففي مسألة الخروج من الإحرام عبّر الفقهاء بالتّحلّل، أمّا التّعبير بالإحلال في هذه المسألة فهو لغويّ. (ر: تحلّل). ب - وفي مسألة جعل المحرم حلالاً عبّر الفقهاء بالاستحلال، سواء كان قصداً أو تأويلاً. (ر: استحلال). ج - وفي المطلّقة ثلاثاً عبّروا بالتّحليل (ر: تحليل). د - وفي الدّين المؤجّل إذا حلّ عبّروا بالحلول (ر حلول).
2 - يختلف الحكم بحسب اختلاف إطلاق لفظ (إحلال) على ما سبق في التّعريف.
3 - يرجع في كلّ إطلاق إلى مصطلحه
انظر: حمو إحياء.
1 - الإحياء مصدر " أحيا " وهو جعل الشّيء حيّاً، أو بثّ الحياة في الهامد، ومنه قولهم: أحياه اللّه إحياءً، أي جعله حيّاً، وأحيا اللّه الأرض، أي أخصبها بعد الجدب، جاء في كتاب اللّه تعالى: {واللّه الّذي أرسل الرّياح فتثير سحاباً فسقناه إلى بلد ميّت فأحيينا به الأرض بعد موتها كذلك النّشور}. ولم يخرج استعمال الفقهاء لكلمة " إحياء " عن المعنى اللّغويّ، فقالوا: «إحياء الموات "، وأرادوا بذلك إنبات الأرض المجدبة، وقالوا: إحياء اللّيل، وإحياء ما بين العشاءين، وأرادوا بذلك شغله بالصّلاة والذّكر، وعدم تعطيله وجعله كالميّت في عطلته. وقالوا: إحياء البيت الحرام، وأرادوا بذلك دوام وصله بالحجّ والعمرة، وعدم الانقطاع عنه كالانقطاع عن الميّت، وهكذا. وقالوا: إحياء السّنّة وأرادوا إعادة العمل بشعيرة من شعائر الإسلام بعد إهمال العمل بها. يختلف الإحياء بحسب ما يضاف إليه، فهناك: أ - إحياء البيت الحرام. ب - إحياء السّنّة. ج - إحياء اللّيل. د - وإحياء الموات. والمراد بإحياء البيت الحرام عند الفقهاء عمارة البيت بالحجّ، وبالعمرة أيضاً عند بعضهم، تشبيهاً للمكان المعمور بالحيّ، ولغير المعمور بالميّت.
2 - نصّ المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة على أنّ إحياء البيت الحرام بالحجّ فرض كفاية كلّ عام على المسلمين في الجملة. وهذا لا يتعارض مع كونه فرض عين في العمر مرّة واحدة على كلّ من استطاع إليه سبيلاً كما هو معلوم من الدّين بالضّرورة؛ لأنّ المسألة مفروضة فيما إذا لم يحجّ عدد من المسلمين فرضاً ولا تطوّعاً ممّن يحصل بهم الشّعار عرفاً في كلّ عام، فإنّ الإثم يلحق الجميع، إذ المقصود الأعظم ببناء الكعبة هو الحجّ، فكان به إحياؤها، ولما أخرجه عبد الرّزّاق في مصنّفه عن ابن عبّاس رضي الله عنهما: لو ترك النّاس زيارة هذا البيت عاماً واحداً ما أمطروا. ومثل الحجّ في ذلك العمرة عند الشّافعيّة والتّادليّ من المالكيّة. ولا يغني عنهما الطّواف والاعتكاف والصّلاة ونحو ذلك، وإن كانت هذه الطّاعات واجبةً أيضاً في المسجد الحرام وجوباً على الكفاية، فإنّ التّعظيم وإحياء البقعة يحصل بجميع ذلك. وتطبيقاً على هذا فقد نصّ المالكيّة على أنّه يجب على إمام المسلمين أن يرسل جماعةً في كلّ سنة لإقامة الموسم، فإن لم يكن هناك إمام فعلى جماعة المسلمين. هذا ولم أجد فيما وقفت عليه نصّاً للحنفيّة على ذلك.
3 - تناول الفقهاء حكم إحياء البيت الحرام بالتّفصيل في أوّل كتاب الجهاد، لمناسبة حكم الجهاد، وهو الوجوب الكفائيّ، حيث تعرّضوا لتعريف الواجب على الكفاية وذكر شيء من فروض الكفايات وأحكامها، كما ذكره بعضهم في أوّل كتاب الحجّ عند الكلام على حكم الحجّ. والّذين جمعوا أحكام المساجد في تآليف خاصّة، أو عقدوا في كتبهم فصلاً خاصّاً بأحكام المسجد الحرام، تعرّضوا له أيضاً كالبدر الزّركشيّ رحمه الله في كتابه: «إعلام السّاجد بأحكام المساجد».
1 - السّنّة: الطّريقة المسلوكة في الدّين. والمراد بإحياء السّنّة هنا: إعادة العمل بشعيرة من شعائر الإسلام بعد إهمال العمل بها. (الحكم الإجماليّ ومواطن البحث): 2 - إحياء السّنّة المماتة مطلوب شرعاً إمّا على سبيل فرض الكفاية، وهو الأصل، وإمّا على سبيل فرض العين، وإمّا على سبيل النّدب. وتفصيل ذلك في مصطلح: أمر بالمعروف.
1 - الإحياء في اللّغة جعل الشّيء حيّاً، ويريد الفقهاء من قولهم: «إحياء اللّيل " قضاء اللّيل أو أكثره بالعبادة، كالصّلاة والذّكر وقراءة القرآن ونحو ذلك. وبذلك تكون المدّة هي أكثر اللّيل، ويكون العمل عامّاً في كلّ عبادة.
أ - قيام اللّيل: 2 - المستفاد من كلام الفقهاء أنّ قيام اللّيل قد لا يكون مستغرقاً لأكثر اللّيل، بل يتحقّق بقيام ساعة منه. أمّا العمل فيه فهو الصّلاة دون غيرها. وقد يطلقون قيام اللّيل على إحياء اللّيل. فقد قال في مراقي الفلاح: معنى القيام أن يكون مشتغلاً معظم اللّيل بطاعة، وقيل ساعةً منه، يقرأ القرآن أو يسمع الحديث أو يسبّح أو يصلّي على النّبيّ صلى الله عليه وسلم. وكلّ واحد منهما قد يسبقه نوم بعد صلاة العشاء وقد لا يسبقه نوم. ب - التّهجّد: 3 - التّهجّد لا يكون إلاّ بعد نوم. ولكن يطلقه كثير من الفقهاء على صلاة اللّيل مطلقاً.
4 - اتّفق الفقهاء على أنّه يندب إحياء اللّيالي الفاضلة الّتي ورد بشأنها نصّ، كما يندب إحياء أيّ ليلة من اللّيالي، لقول عائشة رضي الله عنها: «كان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ينام أوّل اللّيل ويحيي آخره»؛ لأنّ التّطوّع بالعبادة في اللّيل، كالدّعاء والاستغفار في ساعاته مستحبّ استحباباً مؤكّداً، وخاصّةً في النّصف الأخير من اللّيل، ولا سيّما في الأسحار، لقوله تعالى: {والمستغفرين بالأسحار}، ولحديث جابر مرفوعاً: «إنّ في اللّيل لساعةً لا يوافقها رجل مسلم يسأل اللّه خيراً من أمر الدّنيا والآخرة إلاّ أعطاه اللّه إيّاه» رواه مسلم، فهو ممّا يدخل في النّصوص الكثيرة الّتي تحضّ على العبادة.
5 - أ - إحياء ليال مخصوصة ورد نصّ بإحيائها كالعشر الأواخر من رمضان، والعشر الأول من ذي الحجّة. ب - إحياء ما بين المغرب والعشاء من كلّ ليلة، وهذان النّوعان موضوع البحث.
6 - كره الحنفيّة والشّافعيّة الاجتماع لإحياء ليلة من اللّيالي في المساجد غير التّراويح، ويرون أنّ من السّنّة إحياء النّاس اللّيل فرادى. وذهب الشّافعيّة إلى أنّه يكره ذلك، ويصحّ مع الكراهة. وأجاز الحنابلة إحياء اللّيل بصلاة قيام اللّيل جماعةً، كما أجازوا صلاته منفرداً، لأنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فعل الأمرين، ولكن كان أكثر تطوّعه منفرداً، فصلّى بحذيفة مرّةً، وبابن عبّاس مرّةً، وبأنس وأمّه مرّةً. وفرّق المالكيّة في الاجتماع على إحياء اللّيل بقيامه بين الجماعة الكثيرة والجماعة القليلة، وبين المكان المشتهر والمكان غير المشتهر، فأجازوا - بلا كراهة - اجتماع العدد القليل عليه إن كان اجتماعهم في مكان غير مشتهر، إلاّ أن تكون اللّيلة الّتي يجتمعون لإحيائها من اللّيالي الّتي صرّح ببدعة الجمع فيها، كليلة النّصف من شعبان، وليلة عاشوراء، فيكره.
7 - صرّح الشّافعيّة والحنابلة بكراهة قيام اللّيل كلّه لحديث عائشة: «ما رأيت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قام ليلةً حتّى الصّباح». رواه مسلم. واستثنوا إحياء ليال مخصوصة، لحديث عائشة: «كان إذا دخل العشر الأواخر من رمضان أحيا اللّيل كلّه». متّفق عليه.
8 - يكون إحياء اللّيل بكلّ عبادة، كالصّلاة، وقراءة القرآن والأحاديث، وسماعها، وبالتّسبيح والثّناء والصّلاة والسّلام على النّبيّ صلى الله عليه وسلم. ويصلّي في إحياء اللّيل ولو ركعتين. والتّفصيل في عدد ما يصلّي وكونه مثنى أو رباع، موطنه " قيام اللّيل». وكما يجوز له أن يحيي اللّيل بالصّلاة يجوز له أن يحييه بالدّعاء والاستغفار، فيستحبّ لمن أحيا اللّيل أن يكثر من الدّعاء والاستغفار في ساعات اللّيل كلّها. وآكده النّصف الأخير، وأفضله عند الأسحار. وكان أنس بن مالك يقول: أمرنا أن نستغفر بالسّحر سبعين مرّةً. وقال نافع: كان ابن عمر يحيي اللّيل، ثمّ يقول: يا نافع، أسحرنا؟ فأقول: لا، فيعاود الصّلاة. ثمّ يسأل، فإذا قلت: نعم، قعد يستغفر. وعن إبراهيم بن حاطب عن أبيه قال: سمعت رجلاً في السّحر في ناحية المسجد يقول: يا ربّ أمرتني فأطعتك، وهذا سحر، فاغفر لي، فنظرت فإذا هو ابن مسعود.
9 - اللّيالي الفاضلة الّتي وردت الآثار بفضلها هي: ليلة الجمعة، وليلتا العيدين، وليالي رمضان، ويخصّ منها ليالي العشر الأواخر منه، ويخصّ منها ليلة القدر، وليالي العشر الأول من ذي الحجّة، وليلة نصف شعبان، واللّيلة الأولى من رجب. وحكم إحياء هذه اللّيالي فيما يلي: إحياء ليلة الجمعة: 10 - نصّ الشّافعيّة على كراهة تخصيص ليلة الجمعة بقيام بصلاة، لما رواه مسلم في صحيحه من قول رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: «لا تخصّوا ليلة الجمعة بقيام من بين اللّيالي». أمّا إحياؤها بغير صلاة فلا يكره، لا سيّما الصّلاة على النّبيّ صلى الله عليه وسلم فإنّ ذلك مطلوب فيها. ولا يكره إحياؤها مضمومةً إلى ما قبلها، أو إلى ما بعدها، أو إليهما، قياساً على ما ذكروه في الصّوم. وظاهر كلام بعض الحنفيّة ندب إحيائها بغير الصّلاة؛ لأنّ صاحب مراقي الفلاح ساق حديث: «خمس ليال لا يردّ فيهنّ الدّعاء: ليلة الجمعة، وأوّل ليلة من رجب، وليلة النّصف من شعبان، وليلتا العيد». ولم يعلّق عليه.
11 - يندب إحياء ليلتي العيدين (الفطر، والأضحى) باتّفاق الفقهاء. لقوله عليه الصلاة والسلام: «من قام ليلتي العيد محتسباً لم يمت قلبه يوم تموت القلوب». وذهب الحنفيّة اتّباعاً لابن عبّاس إلى أنّه يحصل له ثواب الإحياء بصلاة العشاء جماعةً، والعزم على صلاة الصّبح جماعةً.
12 - أجمع المسلمون على سنّيّة قيام ليالي رمضان عملاً بقوله صلى الله عليه وسلم: «من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدّم من ذنبه». ويخصّ منها العشر الأخير، لأنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: «كان إذا كان العشر الأواخر طوى فراشه، وأيقظ أهله، وأحيا ليله». وذلك طلباً لليلة القدر الّتي هي إحدى ليالي العشر الأخير من رمضان. قال صلى الله عليه وسلم: «اطلبوا ليلة القدر في العشر الأواخر». وكلّ هذا لا خلاف فيه.
13 - ذهب جمهور الفقهاء إلى ندب إحياء ليلة النّصف من شعبان، لقوله عليه الصلاة والسلام: «إذا كانت ليلة النّصف من شعبان فقوموا ليلها وصوموا نهارها، فإنّ اللّه ينزل فيها لغروب الشّمس إلى السّماء الدّنيا، فيقول: ألا من مستغفر فأغفر له، ألا مسترزق فأرزقه، ألا مبتلًى فأعافيه... كذا... كذا... حتّى يطلع الفجر». وقوله صلى الله عليه وسلم: «إنّ اللّه يطّلع ليلة النّصف من شعبان، فيغفر لجميع خلقه إلاّ لمشرك أو مشاحن». وبيّن الغزاليّ في الإحياء كيفيّةً خاصّةً لإحيائها، وقد أنكر الشّافعيّة تلك الكيفيّة واعتبروها بدعةً قبيحةً، وقال الثّوريّ هذه الصّلاة بدعة موضوعة قبيحة منكرة.
14 - جمهور الفقهاء على كراهة الاجتماع لإحياء ليلة النّصف من شعبان، نصّ على ذلك الحنفيّة والمالكيّة، وصرّحوا بأنّ الاجتماع عليها بدعة وعلى الأئمّة المنع منه. وهو قول عطاء بن أبي رباح وابن أبي مليكة. وذهب الأوزاعيّ إلى كراهة الاجتماع لها في المساجد للصّلاة؛ لأنّ الاجتماع على إحياء هذه اللّيلة لم ينقل عن الرّسول صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد من أصحابه. وذهب خالد بن معدان ولقمان بن عامر وإسحاق بن راهويه إلى استحباب إحيائها في جماعة.
15 - نصّ الحنفيّة والحنابلة على ندب إحياء اللّيالي العشر الأول من ذي الحجّة. لما رواه التّرمذيّ عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: «ما من أيّام أحبّ إلى اللّه أن يتعبّد له فيها من عشر ذي الحجّة، يعدل صيام كلّ يوم منها بصيام سنة، وقيام كلّ ليلة منها بقيام ليلة القدر».
16 - ذكر بعض الحنفيّة وبعض الحنابلة من جملة اللّيالي الّتي يستحبّ إحياؤها أوّل ليلة من رجب، وعلّل ذلك بأنّ هذه اللّيلة من اللّيالي الخمس الّتي لا يردّ فيها الدّعاء، وهي: ليلة الجمعة، وأوّل ليلة من رجب، وليلة النّصف من شعبان، وليلتا العيد.
17 - ذهب بعض الحنابلة إلى استحباب إحياء ليلة النّصف من رجب.
18 - ذهب بعض الحنابلة إلى استحباب إحياء ليلة عاشوراء.
19 - الوقت الواقع بين المغرب والعشاء من الأوقات الفاضلة، ولذلك شرع إحياؤه بالطّاعات، من صلاة - وهي الأفضل - أو تلاوة قرآن، أو ذكر للّه تعالى من تسبيح وتهليل ونحو ذلك. وقد كان يحييه عدد من الصّحابة والتّابعين وكثير من السّلف الصّالح. كما نقل إحياؤه عن الأئمّة الأربعة. وقد ورد في إحياء هذا الوقت طائفة من الأحاديث الشّريفة، وإن كان كلّ حديث منها على حدة لا يخلو من مقال، إلاّ أنّها بمجموعها تنهض دليلاً على مشروعيّتها، منها: 1 - ما روته السّيّدة عائشة عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أنّه قال: «من صلّى بعد المغرب عشرين ركعةً بنى اللّه له بيتاً في الجنّة». 2 - وعن ابن عمر، قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: «من صلّى بعد المغرب ستّ ركعات كتب من الأوّابين». حكمه: 20 - لا خلاف بين الفقهاء في أنّ إحياء ما بين المغرب والعشاء مستحبّ. وهو عند الشّافعيّة والمالكيّة مستحبّ استحباباً مؤكّداً. وكلام الحنابلة يفيده. عدد ركعاته: 21 - اختلف في عدد ركعات إحياء ما بين العشاءين تبعاً لما ورد من الأحاديث فيها. فذهب جماعة إلى أنّ إحياء ما بين العشاءين، يكون بستّ ركعات، وبه أخذ أبو حنيفة، وهو الرّاجح من مذهب الحنابلة. واستدلّوا على ذلك بحديث ابن عمر السّابق. وفي رواية عند الحنابلة أنّها أربع ركعات، وفي رواية ثالثة أنّها عشرون ركعةً. وذهب الشّافعيّة إلى أنّ أقلّها ركعتان وأكثرها عشرون ركعةً. وذلك جمعاً بين الأحاديث الواردة في عدد ركعاتها. وذهب المالكيّة إلى أنّه لا حدّ لأكثرها ولكن الأولى أن تكون ستّ ركعات. وتسمّى هذه الصّلاة بصلاة الأوّابين، للحديث السّابق. وتسمّى صلاة الغفلة. وتسميتها بصلاة الأوّابين لا تعارض ما في الصّحيحين من قوله صلى الله عليه وسلم: صلاة الأوّابين إذا رمضت الفصال "، لأنّه لا مانع أن تكون كلّ من الصّلاتين صلاة الأوّابين.
22 - ورد خبر بشأن فضل صلاة تسمّى صلاة الرّغائب في أوّل ليلة جمعة من رجب، بين العشاءين. وممّن ذكره الغزاليّ في الإحياء. وقد قال عنه الحافظ العراقيّ: إنّه موضوع. وقد نبّه الحجّاويّ في الإقناع على أنّ تلك الصّلاة بدعة لا أصل لها.
|